فصل: سئل عن قول النبي إنه مكتوب على قشر البطيخ‏ لا إله إلا الله...

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنه مكتوب على قشر البطيخ‏:‏ لا إله إلا الله، موسي كليم الله‏.‏ لا إله إلا الله، عيسى روح الله‏.‏ لا إله إلا الله، محمد رسول الله‏.‏ وأيضا من أكله بقشره، كان له بكل نهشة عشر حسنات، وحط عنه عشر سيئات، وإن أكله ببزره فبكل ألف درجة في الجنة‏؟‏ وأنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة‏:‏ ألك قميصان‏؟‏ بع الواحد، وكل به بطيخا أصفر‏.‏ وهل صح عنه صلى الله عليه وسلم أكل البطيخ بالرطب، وما معنى البطيخ بالرطب إن صح الحديث‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين‏.‏ الأحاديث المتقدمة في البطيخ كلها مختلقة لم يرغب النبي صلى الله عليه وسلم في أكل البطيخ‏.‏ وجميع ما يروي من هذا الجنس فهو كذب وأما أكل البطيخ بالرطب فهو كأكل القثاء بالرطب والحديث بذلك أصح‏.‏ والمراد به حلاوة هذا ورطوبة هذا‏.‏ وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، فهذا بيان أكل البطيخ الأخضر بالرطب أو التمر‏.‏ فأما أكله بالرطب الأصفر فلا أصل له، لا من نص، ولا قياس‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل حضر عنده جماعة ليطعمهم شيئا، فلما أحضر المائدة والخبز عليها وغاب ليأتي بالأدم، فقال رجل‏:‏ إذا حضر الخبز، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تنتظروا شيئا، فأكلوا الخبز، وحضر الإدام، بقي بلا خبز، فقالوا له‏:‏ كذبت على النبي صلى الله عليه وسلم، وغرمت الرجل الخبز‏:‏ فهل هذا الحديث الذي ذكره صحيح أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، لم يجئ في هذا شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن هذا يقوله بعض الناس، ومعناه الأمر بالقناعة، وإنه يكتفي بالخبز إذا حضر، ولا ينتظر غيره، ولا يطلب من المضيف غيره، فإن ذلك من كرامته‏.‏ فأما إن كانوا منتظرين أدماً يحضر، وإذا أكلوا الخبز بقي الأدم وحده، فانتظارهم حتى يأكلوا الأدم مع الخبز هو الذي يصلح‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن الرجل إذا كان أكثر ماله حلالا، وفيه شبهة قليلة، فإذا أضاف الرجل أو دعاه هل يجيبه، أم لا‏؟‏

/فأجاب‏:‏

الحمد لله، إذا كان في الترك مفسدة ـ من قطيعة رحم أو فساد ذات البين ونحو ذلك ـ فإنه يجيبه؛ لأن الصلة وصلاح ذات البين واجب فإذا لم يتم إلا بذلك كان واجبا، وليست الإجابة محرمة‏.‏ أو يقال‏:‏ إن مصلحة ذلك الفعل راجحة على ما يخاف من الشبهة، وإن لم يكن فيه مفسدة، بل الترك مصلحة توقيه الشبهة، ونهى الداعي عن قليل الإثم‏.‏ وكان في الإجابة مصلحة الإجابة فقط وفيها مفسدة الشبهة، فأيهما أرجح‏؟‏ هذا فيه خلاف ـ فيما أظنه ـ وفروع هذه المسألة كثيرة قد نقل أصحابنا وغيرهم فيها مسائل، قد يرجح بعض العلماء جانب الترك والورع‏.‏ ويرجح بعضهم جانب الطاعة والمصلحة‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل معه مال من حلال وحرام‏:‏ فهل يجوز لأحد أن يأكل من عيشه، أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

إن عرف الحرام بعينه لم يأكل حتمًا، وإن لم يعرف عينه لم يحرم الأكل منه، لكن إذا كثر الحرام كان متروكًا ورعًا‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن اللعب بالشطرنج‏:‏ أحرام هو أم مكروه أم مباح‏؟‏ فإن قلتم‏:‏ حرام، فما الدليل على تحريمه‏؟‏ وإن قلتم‏:‏ مكروه، فما الدليل على كراهته‏؟‏ أو مباح، فما الدليل على إباحته‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، اللعب بها منه ما هو محرم متفق على تحريمه، ومنه ما هو محرم عند الجمهور، ومكروه عند بعضهم، وليس من اللعب بها ما هو مباح مستوي الطرفين عند أحد من أئمة المسلمين، فإن اشتمل اللعب بها على العوض كان حراما بالاتفاق‏.‏ قال أبو عمر ابن عبد البر إمام المغرب‏:‏ أجمع العلماء على أن اللعب بها على العوض قمار لا يجوز‏.‏ وكذلك لو اشتمل اللعب بها على ترك واجب أو فعل محرم‏:‏ مثل أن يتضمن تأخير الصلاة عن وقتها، أو ترك ما يجب فيها من أعمالها الواجبة باطنا أو ظاهرا، فإنها ـ حينئذ ـ تكون حراما باتفاق العلماء‏.‏ وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏تلك صلاة المنافق؛ يرقب الشمس حتى إذا صارت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا‏)‏، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة صلاة المنافقين‏.‏ وقد ذم الله صلاتهم بقوله‏:‏ /‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ‏}‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 4، 5‏]‏، وقد فسر السلف السهو عنها بتأخيرها عن وقتها، وبترك ما يؤمر به فيها، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم إن صلاة المنافق تشتمل على التأخير والتطفيف‏:‏ قال سلمان الفارسي‏:‏ إن الصلاة مكيال، فمن وفي وفي له، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله في المطففين‏.‏ وكذلك فسروا قوله‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 59‏]‏، قال‏:‏ إضاعتها تأخيرها عن وقتها، وإضاعة حقوقها، كما جاء في الحديث ‏(‏إن العبد إذا أكمل الصلاة بطهورها وقراءتها وخشوعها صعدت ولها برهان كبرهان الشمس، وتقول حفظك الله كما حفظتني‏.‏ وإذا لم يكمل طهورها وقراءتها وخشوعها فإنها تلف كما يلف الثوب، ويضرب بها وجه صاحبها، وتقول‏:‏ ضيعك الله كما ضيعتني‏)‏‏.‏

والعبد وإن أقام صورة الصلاة الظاهرة فلا ثواب إلا على قدر ما حضر قلبه فيه منها، كما جاء في السنن لأبي داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها إلا عشرها‏)‏‏.‏ وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ‏:‏ ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها‏.‏ وإذا غلب عليها الوسواس ففي براءة الذمة منها ووجوب الإعادة قولان / معروفان للعلماء‏:‏ أحدهما‏:‏ لا تبرأ الذمة، وهو قول أبي عبد الله بن حامد وأبي حامد الغزالي، وغيرهما‏.‏

والمقصود أن الشطرنج متى شغل عما يجب باطنا أو ظاهرًا حرام باتفاق العلماء‏.‏ وشغله عن إكمال الواجبات أوضح من أن يحتاج إلى بسط، وكذلك لو شغل عن واجب من غير الصلاة، من مصلحة النفس، أو الأهل أو الأمر بالمعروف، أو النهي عن المنكر، أو صلة الرحم، أو بر الوالدين، أو ما يجب فعله من نظر في ولاية أو إمامة أو غير ذلك من الأمور‏.‏ وقل عبد اشتغل بها إلا شغلته عن واجب، فينبغي أن يعرف أن التحريم في مثل هذه الصورة متفق عليه‏.‏ وكذلك إذا اشتملت على محرم، أو استلزمت محرما، فإنها تحرم بالاتفاق‏:‏ مثل اشتمالها على الكذب، واليمين الفاجرة، أو الخيانة التي يسمونها المغاضاة، أو على الظلم، أو الإعانة عليه، فإن ذلك حرام باتفاق المسلمين‏.‏ ولو كان ذلك في المسابقة والمناضلة، فكيف إذا كان بالشطرنج، والنرد، ونحو ذلك‏؟‏ ‏!‏ وكذلك إذا قدر أنها مستلزمة فسادا غير ذلك مثل اجتماع على مقدمات الفواحش، أو التعاون على العدوان، أو غير ذلك، أو مثل أن يفضي اللعب بها إلى الكثرة والظهور الذي يشتمل معه على ترك واجب أو فعل محرم، فهذه الصورة وأمثالها مما يتفق المسلمون على تحريمها فيها‏.‏

وإذا قدر خلوها عن ذلك كله، فالمنقول عن الصحابة المنع من ذلك‏.‏ وصح عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج / فقال‏:‏ ‏{‏مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 52‏]‏، شبههم بالعاكفين على الأصنام، كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏شارب الخمر كعابد وثن‏)‏ والخمر والميسر قرينان في كتاب الله تعالى‏.‏ وكذلك النهي عنها معروف عن ابن عمر، وغيره من الصحابة‏.‏

والمنقول عن أبي حنيفة وأصحابه وأحمد وأصحابه ‏[‏تحريمها‏]‏‏.‏ وأما الشافعي فإنه قال‏:‏ أكره اللعب بها، للخبر، واللعب بالشطرنج والحمام بغير قمار وإن كرهناه أخف حالا من النرد، وهكذا نقل عنه غير هذا اللفظ مما مضمونه‏:‏ أنه يكرهها، ويراها دون النرد، ولا ريب أن كراهته كراهة تحريم، فإنه قال‏:‏ للخبر‏.‏ ولفظ الخبر الذي رواه هو عن مالك‏:‏ ‏(‏من لعب بالنرد فقد عصي الله ورسوله‏)‏ فإذا كره الشطرنج‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ وإن كانت أخف من النرد‏.‏ وقد نقل عنه أنه توقف في التحريم، وقال‏:‏ لا يتبين لي أنها حرام، وما بلغنا أن أحدًا نقل عنه لفظًا يقتضي نفي التحريم‏.‏

والأئمة الذين لم تختلف أصحابهم في تحريمها أكثر ألفاظهم الكراهة‏.‏ قال ابن عبدالبر‏:‏ أجمع مالك وأصحابه على أنه لا يجوز اللعب بالنرد ولا بالشطرنج، وقالوا‏:‏ لا يجوز شهادة المدمن المواظب على لعب الشطرنج‏.‏ وقال يحيي‏:‏ سمعت مالكا يقول‏:‏ لا خير في الشطـرنج وغيرهـا، وسمعته يكره اللـعب بها وبغيرها من الباطـل، ويتلـو هـذه الآيـة‏:‏ ‏{‏فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 32‏]‏، وقال أبو حنيفة‏:‏ أكره اللعب بالشطرنج والنرد‏.‏ فالأربعة تحرم كل اللهو‏.‏

وقد تنازع الجمهور في مسألتين‏:‏ إحداهما‏:‏ هل يسلم على اللاعب بالشطرنج‏؟‏ فمنصوص أبي حنيفة وأحمد والمعافي بن عمران وغيرهم‏:‏ أنه لا يسلم عليه‏.‏ ومذهب مالك وأبي يوسف ومحمد‏:‏ أنه يسلم عليه‏.‏ ومع هذا فإن مذهب مالك أن الشطرنج شر من النرد‏.‏ ومذهب أحمد أن النرد شر من الشطرنج، كما ذكره الشافعي‏.‏ والتحقيق في ذلك أنهما إذا اشتملا على عوض أو خلوا عن عوض فالشطرنج شر من النرد؛ لأن مفسدة النرد فيها وزيادة مثل صد القلب عن ذكر الله، وعن الصلاة، وغير ذلك؛ ولهذا يقال‏:‏ إن الشطرنج على مذهب القدر، والنرد على مذهب الجبر‏.‏ واشتغال القلب بالتفكير في الشطرنج أكثر‏.‏ وأما إذا اشتمل النرد على عوض، فالنرد شر‏.‏ وهذا هو السبب في كون أحمد والشافعي وغيرهما جعلوا النرد شرًا، لاستشعارهم أن العوض يكون في النرد دون الشطرنج‏.‏

ومن هنا تبين الشبهة التي وقعت في هذا الباب؛ فإن الله ـ تعالى ـ حرم الميسر في كتابه، وأتفق المسلمون على تحريم الميسر، واتفقوا على أن المغالبات المشتملة على القمار من الميسر، سواء كان بالشطرنج أو بالنرد، أو بالجوز، أو بالكعاب، أو البيض‏.‏ قال غير واحد من التابعين، كعطاء، وطاووس ومجاهد، وإبراهيم النخعي ـ‏:‏ كل شيء من القمار فهو من الميسر، حتى لعب / الصبيان بالجوز‏.‏ فالذين لم يحرموا الشطرنج كطائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم اعتقدوا أن لفظ الميسر لا يدخل فيه إلا ما كان قمارًا، فيحرم لما فيه من أكل المال بالباطل، كما يحرم مثل ذلك في المسابقة والمناضلة، لو أخرج كل منهما السبق، ولم يكن بينهما محلل، حرموا ذلك لأنه قمار‏.‏ وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من أدخل فرسا بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو قمار، ومن أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار‏)‏ والنبي صلى الله عليه وسلم حرم بيوع الغرر؛ لأنها من نوع القمار‏:‏ مثل أن يشتري العبد الآبق والبعير الشارد، فإن وجده كان قد قمر البائع، وإن لم يجده كان البائع قد قمره، فلما اعتقدوا أن هذه المغالبات إنما حرمت لما فيها من أكل المال بالباطل لم يحرموها إذا خلت عن العوض‏.‏

ولهذا طرد هذا طائفة من أصحاب الشافعي المتقدمين في النرد فلم يحرموها إلا مع العوض، لكن المنصوص عن الشافعي وظاهر مذهبه تحريم النرد مطلقا وإن لم يكن فيها عوض؛ ولهذا قال‏:‏ أكرهها، للخبر‏.‏ فبين أن مستنده في ذلك الخبر، لا القياس عنده‏.‏ وهذا مما احتج به الجمهور عليه، فإنه إذاحرم النرد، ولا عوض فيها فالشطرنج إن لم يكن مثلها فليس دونها‏.‏ وهذا يعرفه من خبر حقيقة اللعب بها، فإن ما في النرد من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن إيقاع العداوة والبغضاء هو في الشطرنج أكثر بلا ريب، وهي تفعل في النفوس، فعل حميا الكؤوس‏.‏ فتصد عقولهم / وقلوبهم عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر مما يفعله بهم كثير من أنواع الخمور والحشيشة‏.‏ وقليلها يدعو إلى كثيرها، فتحريم النرد الخالية عن عوض مع إباحة الشطرنج مثل تحريم القطرة من خمر العنب وإباحة الغرفة من نبيذ الحنطة‏.‏ وكما أن ذلك القول في غاية التناقض من جهة الاعتبار والقياس والعدل، فهكذا القول في الشطرنج‏.‏

وتحريم النرد ثابت بالنص، كما في السنن عن أبي موسي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من لعب بالنرد فقد عصي الله ورسوله‏)‏ وقد رواه مالك في الموطأ، وروايته عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ‏:‏ أنه بلغها أن أهل بيت في دارها كانوا سكانا لها عندهم نرد، فأرسلت إليهم‏:‏ إن لم تخرجوها لأخرجكم من داري، وأنكرت ذلك عليهم‏.‏ ومالك عن نافع عن عبد الله بن عمر‏:‏ أنه كان إذا وجد من أهله من يلعب بالنرد ضربه، وكسرها‏.‏ وفي بعض ألفاظ الحديث عن أبي موسي، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت عنده، فقال‏:‏ ‏(‏عصي الله ورسوله من ضرب بكعابها يلعب بها‏)‏ فعلق المعصية بمجرد اللعب بها، ولم يشترط عوضا، بل فسر ذلك بأنه الضرب بكعابها‏.‏

وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي بريدة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه‏)‏‏.‏ وفي لفظ آخر‏:‏ ‏(‏فليشقص الخنازير‏)‏، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا / الحديث الصحيح اللاعب بها كالغامس يده في لحم الخنزير ودمه، وكالذي يشقص الخنازير‏:‏ يقصبها‏.‏ ويقطع لحمها، كما يصنع القصاب‏.‏ وهذا التشبيه متناول اللعب بها باليد، سواء وجد أكل، أو لم يوجد، كما أن غمس اليد في لحم الخنزير ودمه وتشقيص لحمه متناول لمن فعل ذلك، سواء كان معه أكل بالفم أو لم يكن، فكما أن ذلك ينهى عنه وإن لم يكن معه أكل مال بالباطل فكذلك النرد ينهى عنه وإن لم يكن معه أكل مال بالباطل‏.‏ وهذا يتقرر بوجوه يتبين بها تحريم ‏[‏النرد‏]‏ و‏[‏الشطرنج‏]‏، ونحوهما‏.‏

أحدها‏:‏ أن يقال‏:‏ النهي عن هذه الأمور ليس مختصا بصورة المقامرة فقط، فإنه لو بذل العوض أحد المتلاعبين أو أجنبي لكان من صور الجعالة، ومع هذا فقد نهى عن ذلك، إلا فيما ينفع‏:‏ كالمسابقة، والمناضلة كما في الحديث‏:‏ ‏(‏لا سبق إلا في خف، أو حافر، أو نصل‏)‏؛ لأن بذل المال فيما لا ينفع في الدين ولا في الدنيا منهي عنـه، وإن لم يكـن قمارا‏.‏ وأكل المال بالباطل حرام بنص القرآن، وهذه الملاعب من الباطل لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل؛ إلا رميه بقوسه، أو تأديبه فرسه، أو ملاعبته امرأته فإنهن من الحق‏)‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏[‏من الباطل‏]‏ أي مما لا ينفع، فإن الباطل ضد الحق‏.‏ والحق يراد به الحق الموجود اعتقاده والخبر عنه‏.‏ ويراد به الحق المقصود الذي ينبغي أن يقصد، وهو الأمر النافع فما ليس من هذا فهو باطل، ليس بنافع‏.‏

/وقد يرخص في بعض ذلك إذا لم يكن فيه مضرة راجحة؛ لكن لا يوكل به المال؛ ولهذا جاز السباق بالأقدام، والمصارعة، وغير ذلك، وإن نهى عن أكل المال به‏.‏ وكذلك رخص في الضرب بالدف في الأفراح، وإن نهى عن أكل المال به‏.‏ فتبين أن ما نهى عنه من ذلك ليس خصوصا بالمقامرة، فلا يجوز قصر النهي على ذلك‏.‏ ولو كان النهي عن النرد ونحوه لمجرد المقامرة لكان النرد مثل سباق الخيل، ومثل الرمي بالنشاب، ونحو ذلك؛ فإن المقامرة إذا دخلت في هذا حرموه مع أنه عمل صالح واجب أو مستحب، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلى من أن تركبوا‏)‏، ‏(‏ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا‏)‏، وكان هو وخلفاؤه يسابقون بين الخيل، وقرأ على المنبر‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ‏}‏ الآية ‏[‏الأنفال‏:‏ 60‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي‏)‏ فكيف يشبه ما أمر الله به ورسوله واتفق المسلمون على الأمر به بما نهى الله ورسوله وأصحابه من بعده‏؟‏ ‏!‏ وإذا لم يجعل الموجب للتحريم إلا مجرد المقامرة كان النرد والشطرنج كالمناضلة‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ هب أن علة التحريم في الأصل هي المقامرة لكن الشارع قرن بين الخمر والميسر في التحريم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90، 91]‏، فوصف الأربعة بأنها رجس من عمل الشيطان، وأمر باجتنابها، ثم خص الخمر والميسر بأنه يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله، وعن الصلاة‏.‏ ويهدد من لم ينته عن ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ‏}‏، كما علق الفلاح بالاجتناب في قوله‏:‏ ‏{‏فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ولهذا يقال‏:‏ إن هذه الآية دلت على تحريم الخمر والميسر من عدة أوجه‏.‏

ومعلوم أن الخمر لما أمر باجتنابها حرم مقاربتها بوجه، فلا يجوز اقتناؤها، ولا شرب قليلها، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بإراقتها، وشق ظروفها، وكسر دنانها، ونهى عن تخليلها وإن كانت ليتامي‏.‏ مع أنها اشترىت لهم قبل التحريم، ولهذا كان الصواب الذي هو المنصوص عن أحمد وابن المبارك وغيرهما‏:‏ أنه ليس في الخمر شيء محترم، لا خمرة الخلال ولا غيرها، وأنه من اتخذ خلا فعليه أن يفسده قبل أن يتخمر بأن يصب في العصير خلا، وغير ذلك مما يمنع تخميره بل كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين؛ لئلا يقوي أحدهما على صاحبه، فيفضي إلى أن يشرب الخمر المسكر من لا يدري‏.‏ ونهى عن الانتباذ في الأوعية التي يدب السكر فيها ولا يدري ما به، كالدباء، والحنتم، والظرف المزفت، والمنقور من الخشب‏.‏ وأمر بالانتباذ في السقاء الموكاء؛ لأن السكر ينظر‏:‏ إذا كان في الشراب انشق الظرف وإن كان في نسخ ذلك أو بعضه نزاع ليس هذا موضع ذكره‏.‏ فالمقصود سد الذرائع المفضية إلى ذلك بوجه من الوجوه‏.‏

/وكذلك كان يشرب النبيذ ثلاثا، وبعد الثلاث يسقيه، أو يريقه؛ لأن الثلاث مظنة سكره، بل كـان أمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة، فهذا كله‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ سدا للذريعة؛ لأن النفوس لما كانت تشتهي ذلك، وفي اقتنائها - ولو للتخليل - ما قد يفضي إلى شربها، كما أن شرب قليلها يدعو إلى كثيرها فنهى عن ذلك‏.‏

فهذا الميسر المقرون بالخمر إذا قدرأن علة تحريمه أكل المال بالباطل، وما في ذلك من حصول المفسدة، وترك المنفعة‏.‏ ومن المعلوم أن هذه الملاعب تشتهيها النفوس، وإذا قويت الرغبة فيها أدخل فيها العوض، كما جرت به العادة، وكان من حكم الشارع أن ينهى عما يدعو إلى ذلك لو لم يكن فيه مصلحة راجحة، وهذا بخلاف المغالبات التي قد تنفع‏:‏ مثل المسابقة والمصارعة، ونحو ذلك، فإن تلك فيها منفعة راجحة لتقوية الأبدان فلم ينه عنها لأجل ذلك، ولم تجر عادة النفوس بالاكتساب بها‏.‏ وهذا المعني نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏من لعب بالنرد شير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه‏)‏، فإن الغامس يده في ذلك يدعوه إلى أكل الخنزير، وذلك مقدمة أكله وسببه وداعيته، فإذا حرم ذلك فكذلك اللعب الذي هو مقدمة أكل المال بالباطل وسببه وداعيته‏.‏

/وبهذا يتبين ما ذكر العلماء من أن المغالبات ثلاثة أنواع‏.‏ فما كان معينا على ما أمر الله به في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 60‏]‏، جاز بجعل وبغير جعل‏.‏ وما كان مفضيا إلى ما نهى الله عنه كالنرد، والشطرنج، فمنهي عنه بجعل، وبغير جعل‏.‏ وما قد يكون فيه منفعة بلا مضرة راجحة‏:‏ كالمسابقة، والمصارعة، جاز بلا جعل‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ قول القائل‏:‏ إن الميسر إنما حرم لمجرد المقامرة دعوي مجردة، وظاهر القرآن والسنة والاعتبار يدل على فسادها‏.‏ وذلك أن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 91‏]‏‏.‏ فنبه على علة التحريم، وهي ما في ذلك من حصول المفسدة، وزوال المصلحة الواجبة والمستحبة، فإن وقوع العداوة والبغضاء من أعظم الفساد‏.‏ وصدود القلب عن ذكر الله وعن الصلاة اللذين كل منهما إما واجب وإما مستحب من أعظم الفاسد‏.‏

ومن المعلوم أن هذا يحصل في اللعب بالشطرنج والنرد ونحوهما، وإن لم يكن فيه عوض، وهو في الشطرنج أقوى؛ فإن أحدهم يستغرق قلبه وعقله وفكره فيما فعل خصمه، وفيما يريد أن يفعل هو، وفي لوازم ذلك، ولوازم لوازمه، حتى لا يحس بجوعه ولا عطشه، ولا بمن يسلم عليه، ولا بحال أهله، ولا بغير ذلك من ضرورات نفسه وماله، فضلا أن يذكر ربه أو الصلاة / وهذا كما يحصل لشارب الخمر، بل كثير من الشرَّاب يكون عقله أصحي من كثير من أهل الشطرنج والنرد‏.‏ واللاعب بها لا تنقضي نهمته منها إلا بدست بعد دست، كما لا تنقضي نهمة شارب الخمر إلا بقدح بقدح، وتبقي آثارها في النفس بعد انقضائها أكثر من آثار شارب الخمر، حتى تعرض له في الصلاة، والمرض، وعند ركوب الدابة، بل وعند الموت، وأمثال ذلك من الأوقات التي يطلب فيها ذكره لربه وتوجهه إليه‏.‏ تعرض له تماثيلها، وذكر الشاه، والرخ، والفرزان، ونحو ذلك‏.‏ فصدها للقلب عن ذكر الله قد يكون أعظم من صد الخمر، وهي إلى الشرب أقرب، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ للاعبيها‏:‏ ‏{‏مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ‏}‏‏؟‏ ‏!‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 52‏]‏ وقلب الرقعة، وكذلك العداوة والبغضاء بسبب غلبة أحد الشخصين للآخر، وما يدخل في ذلك من التظالم، والتكاذب، والخيانة التي هي من أقوي أسباب العداوة والبغضاء، وما يكاد لاعبها يسلم عن شيء من ذلك‏.‏

والفعل إذا اشتمل كثيرا على ذلك وكانت الطباع تقتضيه ولم يكن فيه مصلحة راجحة حرمه الشارع قطعًا، فكيف إذا اشتمل على ذلك غالبًا‏؟‏ ‏!‏ وهذا أصل مستمر في أصول الشريعة، كما قد بسطناه في ‏[‏قاعدة سد الذرائع‏]‏ وغيرها، وبينا أن كل فعل أفضي إلى المحرم كثيرا، كان سببا للشر والفساد، فإذا لم يكن فيه مصلحة راجحة شرعية، وكانت مفسدته راجحة، نهى عنه، بل كل سبب يفضي إلى الفساد نهى عنه، إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، / فكيف بما كثر افضاؤه إلى الفساد؛ ولهذا نهى عن الخلوة بالأجنبية‏.‏ وأما النظر‏:‏ فلما كانت الحاجة تدعو إلى بعضه رخص منه فيما تدعو له الحاجة؛ لأن الحاجة سبب الإباحة، كما أن الفساد والضرر سبب التحريم، فإذا اجتمعا رجح أعلاهما، كما رجح عند الضرر أكل الميتة؛ لأن مفسدة الموت شر من مفسدة الاغتذاء بالخبيث‏.‏ والنرد والشطرنج ونحوهما، من المغالبات فيها من المفاسد ما لا يحصي، وليس فيها مصلحة معتبرة، فضلا عن مصلحة مقاومة‏.‏ غايته أن يلهي النفس ويريحها، كما يقصد شارب الخمر ذلك‏.‏ وفي راحة النفس بالمباح الذي لا يصد عن المصالح ولا يجتلب المفاسد غنية، والمؤمن قد أغناه الله بحلاله عن حرامه، وبفضله عمن سواه ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2، ، 3‏]‏‏.‏ وفي سنن ابن ماجه وغيره، عن أبي ذر‏:‏ أن هذه الآية لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا أبا ذر، لو أن الناس كلهم عملوا بهذه الآية لوسعتهم‏)‏ وقد بين ـ سبحانه ـ في هذه الآية أن المتقي يدفع عنه المضرة، وهو أن يجعل له مخرجا مما ضاق على الناس، ويجلب له المنفعة ويرزقه من حيث لا يحتسب وكل ما يتغذي به الحي مما تستريح به النفوس وتحتاج إليه في طيبها وانشراحها فهو من الرزق، والله ـ تعالى ـ يرزق ذلك لمن اتقاه بفعل المأمور وترك المحظور‏.‏ ومن طلب ذلك بالنرد والشطرنج ونحوهما من الميسر، فهو بمنزلة من طلب ذلك بالخمر، وصاحب الخمر يطلب الراحة ولا يزيده إلا تعبا وغما‏.‏ وإن كانت تفيده / مقدارا من السرور، فما يعقبه من المضار ويفوته من المسار أضعاف ذلك، كما جرب ذلك من جربه، وهكذا سائر المحرمات‏.‏

ومما يبين أن الميسر لم يحرم لمجرد أكل المال بالباطل ـ وإن كان أكل المال بالباطل محرما، ولو تجرد عن الميسر، فكيف إذا كان في الميسر‏؟‏ ‏!‏ بل في الميسر علة أخرى غير أكل المال بالباطل، كما في الخمر‏:‏ أن الله قرن بين الخمر والميسر، وجعل العلة في تحريم هذا هي العلة في تحريم هذا، ومعلوم أن الخمر لم تحرم لمجرد أكل المال بالباطل، وإن كان أكل ثمنها من أكل المال بالباطل، فكذلك الميسر‏.‏

يبين ذلك أن الناس أول ما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر والميسر أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏، و‏[‏المنافع‏]‏ التي كانت، قيل هي المال وقيل‏:‏ هي اللذة‏.‏ ومعلوم أن الخمر كان فيها كلا هذين؛ فإنهم كانوا ينتفعون بثمنها والتجارة فيها، كما كانوا ينتفعون باللذة التي في شربها، ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما حرم الخمر ‏(‏لعن الخمر وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومشتريها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وشاربها، وآكل ثمنها‏)‏‏.‏ وكذلك الميسر كانت النفوس تنتفع بما تحصله به من المال، وما يحصل به من لذة اللعب‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏؛ لأن الخسارة في / المقامرة أكثر، والألم والمضرة في الملاعبة أكثر‏.‏ ولعل المقصود الأول لأكثر الناس بالميسر إنما هو الانشراح بالملاعبة والمغالبة، وأن المقصود الأول لأكثر الناس بالخمر إنما هو ما فيها من لذة الشرب، وإنما حرم العوض فيها؛ لأنه أخذ مال بلا منفعة فيه، فهو أكل مال بالباطل، كما حرم ثمن الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فكيف تجعل المفسدة المالية هي حكمة النهي فقط، وهي تابعة، وتترك المفسدة الأصلية التي هي فساد العقل والقلب‏؟‏ ‏!‏

والمال مادة البدن، والبدن تابع القلب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح بها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد، ألا وهي القلب‏)‏‏.‏ والقلب هو محل ذكر الله تعالى وحقيقة الصلاة‏.‏ فأعظم الفساد في تحريم الخمر والميسر إفساد القلب الذي هو ملك البدن‏:‏ أن يصد عما خلق له من ذكر الله والصلاة، ويدخل فيما يفسد من التعادي والتباغض‏.‏ والصلاة حق الحق‏.‏ والتحاب والموالاة حق الخلق‏.‏ وأين هذا من أكل مال بالباطل‏؟‏ ‏!‏ ومعلوم أن مصلحة البدن مقدمة على مصلحة المال، ومصلحة القلب مقدمة على مصلحة البدن‏.‏ وإنما حرمة المال لأنه مادة البدن؛ ولهذا قدم الفقهاء في كتبهم ربع العبادات على ربع المعاملات، وبهما تتم مصلحة القلب والبدن‏.‏ ثم ذكروا ربع المناكحات؛ لأن ذلك مصلحة الشخص وهذا مصلحة النوع الذي يبقي بالنكاح‏.‏ ثم لما ذكروا المصالح ذكروا ما يدفع المفاسد في ربع الجنايات‏.‏

/وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏، وعبادة الله تتضمن معرفته، ومحبته، والخضوع له، بل تتضمن كل ما يحبه ويرضاه‏.‏ وأصل ذلك وأجله ما في القلوب‏:‏ الإيمان، والمعرفة، والمحبة لله، والخشية له، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والرضي بحكمه، مما تضمنه الصلاة والذكر والدعاء وقراءة القرآن، وكل ذلك داخل في معني ذكر الله والصلاة، وإنما الصلاة وذكر الله من باب عطف الخاص على العام، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏، فجعل السعي إلى الصلاة سعيا إلى ذكر الله‏.‏

ولما كانت الصلاة متضمنة لذكر الله ـ تعالى ـ الذي هو مطلوب لذاته، والنهي عن الشر الذي هو مطلوب لغيره، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏، أي‏:‏ ذكر الله الذي في الصلاة أكبر من كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وليس المراد أن ذكر الله خارج الصلاة أفضل من الصلاة وما فيها من ذكر الله، فإن هذا خلاف الإجماع، ولما كان ذكر الله هو مقصود الصلاة قال أبو الدرداء‏:‏ ما دمت تذكر الله فأنت في صلاة، ولو كنت في السوق‏.‏ ولما كان ذكر الله / يعم هذا كله قالوا‏:‏ إن مجالس الحلال والحرام ونحو ذلك مما فيه ذكر أمر الله ونهيه ووعده ووعيده ونحو ذلك هي من مجالس الذكر‏.‏

والمقصود هنا‏:‏ أن يعرف مراتب المصالح والمفاسد وما يحبه الله ورسوله وما لا يبغضه مما أمر الله به ورسوله‏:‏ كان لما يتضمنه من تحصيل المصالح التي يحبها ويرضاها، ودفع المفاسد التي يبغضها ويسخطها، وما نهى عنه كان لتضمنه ما يبغضه ويسخطه، ومنعه مما يحبه ويرضاه‏.‏

وكثير من الناس يقصر نظره عن معرفة ما يحبه الله ورسوله من مصالح القلوب والنفوس ومفاسدها، وما ينفعها من حقائق الإيمان، وما يضرها من الغفلة والشهوة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 29،30‏]‏، فتجد كثيرًا من هؤلاء في كثير من الأحكام لا يري من المصالح والمفاسد إلا ما عاد لمصلحة المال والبدن‏.‏ وغاية كثير منهم إذا تعدي ذلك أن ينظر إلى سياسة النفس، وتهذيب الأخلاق بمبلغهم من العلم، كما يذكر مثل ذلك المتفلسفة والقرامطة مثل أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم، فإنهم يتكلمون في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق بمبلغهم من علم الفلسفة، وما ضموا إليه مما ظنوه من الشريعة، وهم في غاية ما ينتهون إليه دون اليهود والنصاري بكثير، كما بسط في غير هذا الموضع‏.‏

/وقوم من الخائضين في أصول الفقه وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة إذا تكلموا في المناسبة، وأن ترتيب الشارع للأحكام على الأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم، ورأوا أن المصلحة نوعان أخروية، ودنيوية، جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم، وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر، وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله ـ تعالى ـ وملائكته وكتبه ورسله، وأحوال القلوب وأعمالها، كمحبة الله، وخشيته، وإخلاص الدين له، والتوكل عليه، والرجا لرحمته، ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة‏.‏ وكذلك فيما شرعه الشارع من الوفاء بالعهود وصلة الأرحام، وحقوق المماليك والجيران، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه، حفظًا للأحوال السنية، وتهذيب الأخلاق‏.‏ ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح‏.‏

فهكذا من جعل تحريم الخمر والميسر لمجرد أكل المال بالباطل، والنفع الذي كان فيهما بمجرد أخذ المال، يشبه هذا‏.‏ ‏.‏ إن هذه المغالبات تصد عن ذكر الله وعن الصلاة من جهة كونها عملا، لا من جهة أخذ المال، فإنها لا تصد عن ذكر الله وعن الصلاة إلا كما يصد سائر أنواع أخذ المال، ومعلوم أن الأموال التي يكتسب بها المال لا ينهى عنها مطلقا؛ لكونها تصد عن ذكر الله وعن / الصلاة‏.‏ بل ينهى منها عما يصد عن الواجب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 9‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 37‏]‏، فما كان ملهيا وشاغلا عما أمر الله ـ تعالى ـ به من ذكره والصلاة له فهو منهي عنه، وإن لم يكن جنسه محرما‏:‏ كالبيع، والعمل في التجارة، وغير ذلك‏.‏

فلو كان اللعب بالشطرنج والنرد ونحوهما في جنسه مباحا، وإنما حرم إذا اشتمل على أكل المال بالباطل، كان تحريمه من جنس تحريم ما نهى عنه من المبيعات والمؤجرات المشتملة على أكل المال بالباطل، كبيوع الغرر‏.‏ فإن هذه لا يعلل النهي عنها بأنها تصد عما يجب من ذكر الله وعن الصلاة، فإن البيع الصحيح منه ما كان يصد، وأن المعاملات الفاسدة لا يعلل تحريمها بأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فيمكن أن يقال تلك المعاملات الصحيحة ينهى منها عما يصد عن الواجب فتبين أن تحريم الميسر ليس لكونه من المعاملات الفاسدة، وأن نفس العمل به منهي عنه لأجل هذه المفسدة، كما حرم شرب الخمر‏.‏ وهذا بين لمن تدبره‏.‏

ألا تري أنه لما حرم الربا لما فيه من الظلم وأكل المال بالباطل قرن بذلك ذكر البيع الذي هو عدل، وقدم عليه ذكر الصدقة التي هي إحسان‏.‏ فذكر في آخر سورة البقرة حكم الأموال ـ المحسن، والعادل، والظالم ـ / ذكر الصدقة، والبيع، والربا‏.‏ والظلم في الربا، وأكل المال بالباطل به أبين منه في الميسر، فإن المرابي يأخذ فضلا محققا من المحتاج؛ ولهذا عاقبه الله بنقيض قصده، فقال‏:‏ ‏{‏يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 276‏]‏، وأما المقامر فإنه قد يغلب فيظلم، فقد يكون المظلوم هو الغني، وقد يكون هو الفقير، وظلم الفقير المحتاج أشد من ظلم الغني‏.‏ وظلم يتعين فيه الظالم القادر أعظم من ظلم لا يتعين فيه الظالم؛ فإن ظلم القادر الغنى للعاجز الضعيف أقبح من تظالم قادرين غنيين لا يدري أيهما هو الذي يظلم‏.‏ فالربا في ظلم الأموال أعظم من القمار، ومع هذا فتأخر تحريمه، وكان آخر ما حرم الله تعالى في القرآن، فلو لم يكن في الميسر إلا مجرد القمار لكان أخف من الربا، لتأخر تحريمه‏.‏ وقد أباح الشارع أنواعا من الغرر للحاجة، كما أباح اشتراط ثمر النخل بعد التأبير تبعا للأصل، وجوز بيع المجازفة وغير ذلك‏.‏ وأما الربا فلم يبح منه، ولكن أباح العدول عن التقدير بالكيل إلى التقدير بالخرص عند الحاجة، كما أباح التيمم عند عدم الماء للحاجة؛ إذا الخرص تقدير بظن، والكيل تقدير بعلم‏.‏ والعدول عن العلم إلى الظن عند الحاجة جائز‏.‏ فتبين أن الربا أعظم من القمار الذي ليس فيه إلا مجرد أكل المال بالباطل، لكن الميسر تطلب به الملاعبة والمغالبة نهى عنه الإنسان لفساد عقله مع فساد ماله‏.‏ مثل ما فيه من الصدود عن ذكر الله وعن الصلاة‏.‏ وكل من الخمر والميسر فيه إيقاع العداوة والبغضاء، وفيه الصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، أعظم من الربا وغيره من المعاملات الفاسدة‏.‏

/فتبين أن الميسر اشتمل على مفسدتين‏:‏ مفسدة في المال، وهي أكله بالباطل، ومفسدة في العمل، وهي ما فيه من مفسدة المال وفساد القلب والعقل وفساد ذات البين وكل من المفسدتين مستقلة بالنهي، فينهي عن أكل المال بالباطل مطلقا ولو كان بغير ميسر كالربا، وينهي عما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء ولو كان بغير أكل مال‏.‏ فإذا اجتمعا عظم التحريم، فيكون الميسر المشتمل عليهما أعظم من الربا‏.‏ ولهذا حرم ذلك قبل تحريم الربا، ومعلوم أن الله ـ تعالى ـ لما حرم الخمر حرمها ولو كان الشارب يتداوى بها، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح‏.‏ وحرم بيعها لأهل الكتاب وغيرهم، وإن كان أكـل ثمنها لا يصـد عن ذكـر الله وعـن الصـلاة، ولا يوقـع العـداوة والبغضـاء؛ لأن الله ـ تعالى ـ إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه، كل ذلك مبالغة في الاجتناب، فهكذا الميسر منهي عن هذا وعن هذا‏.‏

والمعين على الميسر كالمعين على الخمر، فإن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان‏.‏ وكما أن الخمر تحرم الإعانة عليها ببيع أو عصر أو سقي أو غير ذلك، فكذلك الإعانة على الميسر، كبائع آلاته، والمؤجر لها، والمذبذب الذي يعين أحدهما، بل مجرد الحضور عند أهل الميسر كالحضور عند أهل شرب الخمر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من كان يؤمن بالله واليـوم الآخـر فـلا يجلـس على مائـدة يشـرب عليهـا الخمـر‏)‏ وقـد رفع إلى عمر بن /عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ قوم يشربون الخمر فأمر بضربهم، فقيل له‏:‏ إن فيهم صائما‏.‏ فقال‏:‏ ابدؤوا به‏!‏ ثم قال‏:‏ أما سمعت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عليكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 140‏]‏، فاستدل عمر بالآية؛ لأن الله ـ تعالى ـ جعل حاضر المنكر مثل فاعله بل إذا كان من دعا إلى دعوة العرس لا تجاب دعوته إذا اشتملت على منكر حتى يدعه مع أن إجابة الدعوة حق، فكيف بشهود المنكر من غير حق يقتضي ذلك‏.‏

فإن قيل‏:‏ إذا كان هذا من الميسر، فكيف استجازه طائفة من السلف‏؟‏ قيل له‏:‏ المستجيز للشطرنج من السلف بلا عوض كالمستجيز للنرد بلا عوض من السلف، وكلاهما مأثور عن بعض السلف، بل في الشطرنج قد تبين عذر بعضهم، كما كان الشعبي يلعب به لما طلبه الحجاج لتولية القضاء‏.‏ رأى أن يلعب به ليفسق نفسه، ولا يتولي القضاء للحجاج، ورأي أن يحتمل مثل هذا ليدفع عن نفسه إعانة مثل الحجاج على مظالم المسلمين‏.‏ وكان هذا أعظم محذورًا عنده، ولم يمكنه الاعتذار إلا بمثل ذلك‏.‏

ثم يقال‏:‏ من المعلوم أن الذين استحلوا النبيذ المتنازع فيه من السلف والذين استحلوا الدرهم بالدرهمين من السلف أكثر وأجل قدرا من هؤلاء، فإن ابن عباس ومعاوية وغيرهما رخصوا في الدرهم بالدرهمين، وكانوا متأولين أن الربا لا يحرم إلا في النساء، لا في اليد باليد‏.‏ وكذلك من ظن أن الخمر / ليست إلا المسكر من عصير العنب، فهؤلاء فهموا من الخمر نوعا منه دون نوع، وظنوا أن التحريم مخصوص به‏.‏ وشمول الميسر لأنواعه كشمول الخمر والربا لأنواعهما‏.‏

وليس لأحد أن يتبع زلات العلماء، كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم والإيمان إلا بما هم له أهل، فإن الله ـ تعالى ـ عفا للمؤمنين عما أخطؤوا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، قال الله‏:‏ قد فعلت‏.‏ وأمرنا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا ولا نتبع من دونه أولياء، وأمرنا ألا نطيع مخلوقا في معصية الخالق، ونستغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، فنقول‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ‏}‏ الآية ‏[‏الحشر‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وهذا أمر واجب على المسلمين في كل ما كان يشبه هذا من الأمور‏.‏ ونعظم أمره تعالى بالطاعة لله ورسوله، ونرعى حقوق المسلمين، لا سيما أهل العلم منهم، كما أمر الله ورسوله‏.‏ ومن عدل عن هذه الطريق فقد عدل عن اتباع الحجة إلى اتباع الهوي في التقليد، وآذي المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا‏:‏ فهو من الظالمين‏.‏ ومن عظم حرمات الله وأحسن إلى عباد الله كان من أولياء الله المتقين‏.‏ والله ـ سبحانه ـ أعلم‏.‏